خلق الله سبحانه وتعالى الانسان وميزه على سائر خلقه
وخصه بالعقل ووهبه كثير من نعمه لتؤهله للعمل على اعمار الارض وخلافته فيها
واوجد له منهجا حكيما ونبيا قدوة ليهتدي بهديه ويسير على خطاه - صلى الله عليه وسلم -
وشاءت حكمة الله سبحانه وتعالى ان اوجد في هذا الانسان الشهوات ليميز فيها الخبيث من الطيب
فاما ان يرتقي بنفسه في عالم الطهر والخلود واما ان ينزل بنفسه الى دركات الجهل في اسفل
السافلين والعياذ بالله
وقد تستسلم النفس لاهوائها احيانا لكن الحكمة تكون في تداركها والعودة الى بارئها والاستغفار
والدعاء لتطهيرها من شرورها
وقد خاطب الله سبحانه في قرانه العظيم هؤلاء بقوله
(
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) (190) (ال عمران)
فهذا حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه، و التفكر في آياته
فالكون بحد ذاته كتاب مفتوح يحمل دلائل الايمان واياته
تؤكد لنا ان هناك يد تدبر اموره بحكمة ، فهو لم يخلق عبثا
ويوحي بان وراء هذه الحياة الدنيا اخرة وحسابا وجزاءا
وانما يدرك هذه الدلائل ويقرأ هذه الايات ويرى هذه الحكمة ويسمع هذه الايحاءات اولو الالباب من
الناس ،
وقال تعالى في سورة الزمر
(أ
َلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ )(21)
وقال تعالى
(
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ )(7) (ال عمران)
وكأنه ليس بين اولي الالباب وادراك الحق الا ان يتذكروا
فالحق مستقر في فطرتهم الموصولة بالله
ينبض ويبرز ويقرر في الالباب
وعندئذ تنطلق السنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع في ابتهال منيب:
ان يثبتهم على الحق والا يزيغ قلوبهم بعد الهدى
وان يسبغ عليهم فضله ورحمته
ربنـــــا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنـــــا
وهب لنــــــــا من لدنك رحمة انك انت الوهــــاب
واولو الالباب يدركون عدم استواء الخبيث و الطيب حتى وان كان ظاهره حسنا او لكثرته فهم
يتنزهون عن الوقوع في الخبائث
ويدركون أن الطيب خير من الخبيث، و ذلك بحسب طبعه و بقضاء من الفطرة أعلى درجة و أسمى منزلة
قال تعالى في سورة المائدة
(
قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(100)
وهم الذين اذا ذكرو يذكرون ويعتبرون
ففي سورة يوسف قال تعالى
(
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)
كما ورد ايضا في سورة ص
(
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ )(43)
وذلك في ذكر في قصة ايوب عليه السلام اذ ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلا امرأته و أن الله
أحياهم له و وهبهم له و مثلهم معهم، و قيل: إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه فجمعهم الله إليه
بعد برئه و تناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عددا.
و قوله: «رحمة منا و ذكرى لأولي الألباب»
أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منا و ذكرى لأولي الألباب يتذكرون به.
وفي سورة الزمر قال تعالى (
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ } * {
هُدًى وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } (21)
اي أورثنا بنى إسرائيل الكتاب، حالة كونه هاديا ومذكرا لأولى الألباب.
لأنهم هم الذين ينتفعون بالهدايات. وهم الذين يتذكرون ويعتبرون دون غيرهم.
وفي سورة الطلاق وردت الايات
(و
َكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا ( فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
وذلك في الحديث عن كثير من أهل القرى الماضية، الذين خرجوا عن طاعة ربهم، وعصوا رسله،
فكانت نتيجة ذلك أن سجل الله سبحانه وتعالى عليهم أفعالهم تسجيلا دقيقا، وجازاهم عليها جزاء
عادلا، بأن عذبهم عذابا فظيعا. وعاقبهم عقابا نكرا..
فترتب على هذا الحساب والعقاب، أن ذاق أهل تلك القرى سوء عاقبة بغيهم وجحودهم لنعم الله..
وكان عاقبة أمرها خسرا
أى: وكانت نهايتهم نهاية خاسرة خسارة عظيمة، كما يخسر التاجر صفقته التجارية التى عليها قوام حياته.
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهم فى الآخرة من عذاب، بعد بيان ما حل بهم فى الدنيا فقال:
{
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً... }.
أى: أن ما أصابهم فى الدنيا بسبب فسوقهم عن أمر ربهم، ليس نهاية المطاف، بل هيأ الله - تعالى -
لهم عذابا أشد من ذلك وأبقى فى الآخرة..
وما دام كذلك {
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً... }.
والألباب جمع لب، وهو العقل السليم الذى يرشد صاحبه إلى الخير والبر.
واولو الالباب يحرصون على التزود بخير زاد
فالسفر من الدنيا لابد له من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإِعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من
زاد الدنيا لأن زاد الدنيا يخلصنا من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصنا من عذاب دائم..
قال تعالى في سورة الحج
(
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ )
قال الأعشى مقرراً هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
******
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه